من الطب التعيسة إلى الغربة السعيدة

نشر في جريدة الجريدة بتاريخ ٢٨/٩/٢٠١١

لمشاهدة المقال بالجريدة اضغط هنا

يوماً ما سأصبح طبيباً أستقبل أحبائي المرضى، أشخص وأكشف عللهم وأعالج معضلاتهم بكل حب وعطاء، وأنا مرتد ذلك المعطف الأبيض حاملاً معي سماعتي وأدواتي، هذا هو الحلم الذي راود الكثير منذ نعومة أظفاره، منّا من دخل هذا المجال من أوسع أبوابه باقتحامه الطب بإصرار وتحد للظروف المختلفة والآخر غيّر مسار حياته باختيار ما يناسبه من تخصص.
إن هذا الحلم الذي رافق الإنسان أيام طفولته امتد كذلك إلى الآباء والأمهات، ليروا نتاج تربيتهم أطباء تفخر بهم الكويت ويفخر بهم ذووهم ويفخرون هم بأنفسهم، لما لهذا العمل من معان إنسانية قبل أن تكون مهنة ووظيفة، لأن الطب حياة تضمن من خلالها المجتمعات وجودها، ورقيّها، وبقاءها. دخول الطب بحاجة إلى عزيمة، وصبر، وجهد وإصرار، وبحاجة إلى عمل دؤوب أيضاً من المرحلة الثانوية، فما من طالب انضم إلى كلية الطب عن طريق المصادفة أو بسهولة، بل يسبق انضمامه نسبة عالية من الدرجات إلى جانب اجتياز اختبار القدرات الأكاديمية للتأكد من أحقيته في الحصول على مقعد في السنة التمهيدية بمركز العلوم الطبية، ما أجمل أن تكون هذه الكلية للطلبة المتفوقين! وليس أي متفوقين، بل للأوائل على مستوى الدولة، والأجمل من ذلك ان يختار هذا المتفوق جامعة بلاده لينال من علمها وطبها ألا وهي “جامعة الكويت” هذا الصرح الأكاديمي العلمي الراقي الذي تفخر به الكويت، ونفخر به نحن كطلبة… فقط فضلت جامعة الكويت وهمشت جميع الجامعات العالمية القوية والبعثات الخارجية حباً للكويت… فالتحقت بهذه الجامعة

‎ولكن عندما تأتي الجامعة وتقبل “عدداً ضخماً” بمركز العلوم الطبية ليوزعوا بعد سنة كاملة من التعب والجهد على ثلاث كليات، وهي الطب البشري وطب الأسنان والصيدلة، نرى في المقابل عدداً ضئيلاً من المقاعد بالنسبة للعدد الهائل الذي تم قبوله، السؤال هنا لماذا تضيع سنة كاملة من عمر الطالب الذي تم قبوله ثم لا يجد له مقعداً في الكلية؟ لنطوِّ هذا القرار غير المدروس، وأبشركم بأن استقبالنا- نحن المستجدين في العام السابق- في الكلية كان حاراً ورائعاً جداً لكنه كان مفعماً بكل مفاهيم الإحباط وتثبيط المعنويات وتكسير الآمال بقول إحدى أعضاء هيئة التدريس في أولى المحاضرات: “هذه الكلية لا تتسع إلا لنصف عددكم، وإن النصف الثاني سيذهب إلى تخصص آخر، ومن لم يستطع العمل بكل قواه فليخرج من الآن وينقل أوراقه إلى كلية أخرى من هذه اللحظة”! أهذا هو الاستقبال المطلوب؟ أهذا هو الطرح الذي نتفاءل به؟ أهذا ما يستحقه أطباء المستقبل ويريدون سماعه؟ أهذا ما تريدونه لنفسيات الطلاب؟! لذلك اعتمدت الجامعة على سياسة “رسوب الطلاب” للوصول إلى المقاعد المتوافرة بأي وسيلة كانت

‎وعندما قارنت جامعة الكويت بالجامعات العريقة في الخارج في السنة الأولى بالطب، وجدت أن الفارق مؤلم جدا، إذ إن الثانية تسعى إلى إسعاد طلابها وتثقيفهم والنهوض بهم علمياً وفكرياً وعقلياً ونفسياً والاهتمام بهم لتفخر بمخرجاتها، وتكسب شرف السمعة الطيبة بعد ذلك، فأول ما تطأ أقدامنا الجامعة يستقبلنا المرشد الأكاديمي الذي يرشدنا خطوة بخطوة إلى كيفية الدراسة وكيفية التعايش مع الجامعة والتكيف مع نظامها، أما الأولى (جامعة الكويت) فيحدث فيها عكس ما نجده في الخارج تماما، فالطلاب هم من يقومون بذلك دون قصد وبشكل غير مجدّ. وصلت في نهاية مقارنتي إلى النتيجة الأكثر ألماً ألا وهي أن متفوقي وأوائل الكويت في جامعتها تُقتل أحلامهم، وتحبط معنوياتهم، ويشرد مستقبل دراستهم، وتضيع سنة كاملة من عمر الطالب بلا فائدة

‎ختاما إلى كل من يرغب في دخول كلية الطب وإلى كل من تراوده الأفكار لاقتحام هذا المجال، أقدم له نصيحة طالب فائق خاض تجربة لو عادت الأيام قليلاً به لما خاضها، لا تفكر إلا في الالتحاق بجامعة عريقة خارج الكويت، فتصنيفها أفضل من جامعة الكويت وسياستها راقية مع طلابها، بلاشك أرقى من سياسة جامعة الكويت، ولأن الجامعة في الخارج تدعم طموحك بل وتشجعك لتحقيقه واقعا، وليست جامعة كابحة للطموحات وقاتلة للمعنويات… فإن كانت هذه سياسة مركز العلوم الطبية على أرض الوطن… فأهلاً وسهلاً بالغربة السعيدة‫.‬

‎أحمد محمد العلي

‎طالب مستجد بمركز العلوم الطبية سابقاً – مبتعث بالمملكة المتحدة / مانشستر حاليا