سائق تاكسي بلا أجهزة إنعاش!

 

ذكرت في مقالة سابقة لي في عام 2014 تحت عنوان «جراح قلب.. سائق تاكسي» قصة ذاك السائق الآسيوي الذي نقلني في تاكسي بريطانيا الأسود الشهير، حيث ذهلت من معرفته بتفاصيل بعض المواضيع الطبية الدقيقة بعد أن سألني عن تخصصي الدراسي، وإذا به يدهشني بالقول بأنه طبيب تخرج في بلده ويستكمل دراسته التخصصية في جراحة القلب هنا في مانشستر، وقد أظهر لي كتابا حول جراحة القلب قد وضعه بجانبه ينهل منه قبل توصيله للراكبين في كل وقت انتظار!

 

قبل أيام كان لي موقف مشابه ولكنه مختلف، وكان له الأثر الكبير في احترام مثل هذا السائق العظيم! طلبت تاكسي من خلال تطبيق «أوبر» الشهير على هاتفي النقال في تمام الساعة السابعة صباحا متوجها إلى أحد المستشفيات في مانشستر لأكون ضمن فريق للعمليات الجراحية للأطفال، فسألني السائق وقتها الأسئلة التي غالبا ما يسألها سائقو التاكسي: هل تدرس هنا؟ ما تخصصك؟ من أي دولة أتيت؟ فقد أجبته على ذلك، وقص علي قصته مع إحدى العوائل الكويتية الكريمة قبل عدة سنوات التي أتت لمعالجة ابنها المصاب بسرطان الدم من خلال زراعة نخاع العظم ولكن للأسف فارق الحياة ولم يكن الطب في وقتها سببا في الحفاظ على حياته، واستطرد قائلا بأنكم – ويعني بذلك الأطباء بشكل عام- لديكم الهبة والمهارة اللازمة في معالجة المرضى وقد تكون حياة الإنسان مرهونة بين يدي الطبيب والجراح فيا لمهنتكم العظيمة هذا الشرف العظيم، وهذا ما حدث مع ابن أخيه الذي كان ما بين الحياة والموت المحتم في وقت عملية جراحية توقف القلب بها ولكن لحنكة الجراحين أعادوه للحياة وكانوا بلسما لروحه وهو الآن يتمتع ولله الحمد بصحة جيدة ومشاغب جدا كما يروي لنا عمه!

 

واستكمل سائق التاكسي -الأفغاني الجنسية- حديثه قائلا: قد يجد الناس مهنتي بأنها مهنة غير مرغوبة وطاردة فقاطعته قائلا: بالعكس تماما أجد من سائق التاكسي فرصة للحديث مع الناس من مختلف مشاربها وثقافاتها ودياناتها وعقائدها وفكرها بل وحتى وظائفها، فكم جميل بأن تلتقي بهذا الكم من الناس المختلفة ألوانهم وأشكالهم وفي كل مرة تستمع وتحاور شيئا من هذا العالم الكبير، وافقني وقال كان لي موقف لم ولن أنساه حيث كنت أنقل إحدى الزبائن وهي بنت يقارب عمرها الثامنة عشرة إلى وجهة معينة، وكانت هذه البنت تتحدث بحرقة وبكاء شديد مع أختها من خلال الهاتف النقال بلغة «الأوردو» التي يفهمها هذا السائق الأفغاني، فكانت تقول بأنها لا تود أن تعيش بعد خسارتها كل أموالها ومستقبلها وهي مقبلة الآن إلى الانتحار في الوجهة التي ينقلها التاكسي لها والتي تحتوي على جسر كبير، وفجأة فتحت النافذة ورمت هاتفها النقال في وسط الشارع!

 

فاستدرك السائق جدية الموضوع وحقيقته وتوقف فورا على كتف الطريق وتحدث مع البنت بإسهاب رافضا إيصالها إلى الموت بنفسه! وبعد حديث مطول اصطحبها إلى أمه واخواته للاطمئنان عليها والحديث معها وقد كانت النتيجة حفظ هذه الروح البشرية من الهلاك. هذا السائق قد يشبه الطبيب والجراح في إنقاذ نفس بشرية من الموت لكن دون أجهزة إنعاش، لذلك كان لهذا الموقف والقصة الأثر الكبير، فمهما كانت المهنة ومهما كان المستوى التعليمي والوظيفي، فلكل شخص منا أثر ولكل منا في هذه الحياة جزء يكمل الآخر، فلا تستصغر شيئا بتاتا فكما يقال: «معظم النار من مستصغر الشرر».

 

رابط المقال في جريدة الأنباء