أكتب لكم الآن هذا المقال وأنا على متن اندرقراوند لندن على خط piccadilly متجها الى knightsbridge، في الفترة السابقة، كثيرا ما ترددت في تنقلاتي داخل لندن عن طريق الاندرقراوند وهو الذي قد بني منذ أكثر من 150 عاما، ويعد فعلا مدينة كاملة بخطوطها وسككها أسفل لندن، مدينة الضباب.

كلما استقللت قطارا في الاندرقراوند غالبا ما ألاحظ عن كثب حالات الراكبين وأفعالهم بمختلف جنسياتهم وأعمارهم، وجدت بأن الحياة في الاندرقراوند ما هي إلا انعكاس ومرآة واضحة وقريبة جدا لمشاهد من حياة الشعوب المختلفة وثقافاتهم وعواطفهم، سأنقل لكم بعض المشاهدات التي أثرت فيني وقت مشاهدتي لها، أولها بصبية فاتنة كسرت قدمها لسبب ما فاتخذت كتف حبيبها متكئا لها، وكان الحب بينهما يملأ أجواء القاطرة بأجمل صوره، فكم جميلة هي الحياة بهذا الحب الذي يجعلنا نسند أنفسنا على من نحب بكل ثقة لنبين بأن الدنيا أخذ وعطاء وهي رغم ما يحدث حولنا.. لاتزال بخير.

ذات مرة، شاهدت امرأة انجليزية غزا الشيب شعرها وخطوط العمر بدت واضحة على محياها، اتخذت الحياكة وسيلة لترفه عن نفسها في وحدة الطريق، تنزل نظارتها وتمسك بإبرتيها تحيك لونين من الخيوط الدافئة لتشكل كما يبدو حقيبة صغيرة ربما لحفيدتها، ما أجمل هذا المنظر وما أجمل حب العائلة عندما يغمر أفرادها، فلا حب يضاهي هذا الحب.

وفي وقت آخر، رأيت ذاك الشاب الوسيم بلبسه الأنيق ورائحته الزكية التي ملأت القاطرة وقت دخوله، حاملا بيده باقة ورد كبيرة، مشاعر الحب التي يحملها أسعدت من حوله، فأثبت لي بأن جمال الأشياء وإن كانت بسيطة لها من التأثير ما لها على نفوس المحبين والحاضرين.

فجأة، وحين أكتب لكم هذه المشاهدات وأنا داخل قطار الاندرقراوند، صدر إعلان بتوقف القطار لعطل ما وسيكون تأخيرنا لعدة دقائق، وإذا بأحد الراكبين يخرج من حقيبته مضخة هواء يدوية ليملئ بالونات ويشكلها على أشكال مختلفة ويعلقها على أعمدة القطار ليفرح الأطفال ويدخل السعادة في نفوسهم، وتقول أخرى معلقة على ما حدث: «هذا يحدث فقط في.. لندن»، فيا لجمال هذا الحدث رغم بساطته.

أعود إلى مشاهداتي السابقة، وأحكي لكم عن امرأة بصحبة رجل، وقد اغرورقت أعينهم بالدموع حتى سقطت على وجنتيهما، رأيت ذاك الألم الذي ملأ قلبيهما حتى تفجرت عيونهم، هي ذاتها الحياة، في حلوها ومرها، كما هذا القطار، محطة تبكيها وأخرى تعديها، تقف مرة تتأخر مرات، تسرع في أوقات، تتعطل بعض اللحظات، حتى تصل الى المحطة التي تريدها.

رأيت تلك المحجبة الملتزمة في لبسها ممن تعتقد بالإسلام دينا، وبرجال تخرج من قبعاتهم السوداء «عناقيص» تبين انهم من اهل اليهود، شاهدت شبابا طائشا وبيدهم مشروبات كحولية، رأيت حسناء بشعرها الأشقر الأنيق تلتهم كتابا متمعنة في تفاصيله من حكايات، وآخر لا يلمس أي سطح إلا بقطعة منديل متتبعا في ذلك وسوسته من لمس الجراثيم.

بشر مختلف ألوانه وأشكاله ولغاته وأفكاره، مجتمعين في قطار يحوم تحت أرجاء لندن، متنقلا من مكان إلى آخر، إن أردت أن ترى العالم بمنظور مختلف فاجلس في اندرقراوند لندن وشاهد ما يحدث حولك، فهي مشاهدات قلما تشاهدها مجتمعة في مكان واحد، لتؤكد بذلك بأن عالمنا مليء بالاختلافات، ودونها لا تصبح لحياتنا.. حياة.

 

الرابط في جريدة الأنباء